
في قلب التحوُّلات الاقتصادية الكبرى التي تشهدها المملكة العربية السعودية، يظهر قطاع البناء والتشييد كأحد المحركات الرئيسية التي تُسهم بشكلٍ ملحوظٍ في دفع عجلة النمو الاقتصادي الوطني. فمنذ إطلاق رؤية المملكة 2030، شهد القطاع طفرةً غير مسبوقة في الاستثمارات والمشاريع العملاقية، التي تُقدَّر قيمتها بحوالي 1.5 تريليون دولار وفقًا لتقارير شركة "جيه إل إل" العالمية المتخصصة في الخدمات العقارية. وهذه المشاريع تسهم بشكلٍ كبيرٍ في تعزيز التنمية المستدامة، وهو ما يعكس تطورًا جذريًّا في هيكل الاقتصاد السعودي.
مساهمة قطاع البناء في الناتج المحلي الإجمالي
يُشكِّل قطاع البناء والتشييد في السعودية عنصرًا حيويًّا في الناتج المحلي الإجمالي؛ حيث بلغت القيمة المضافة للقطاع في الاقتصاد السعودي 225 مليار ريال بالأسعار الجارية في عام 2024، ووفق بيانات الهيئة العامة للإحصاء السعودية فإن نسبة مساهمة القطاع في الناتج المحلي الإجمالي تبلغ نحو 5.2%. وهذا الرقم يُظهر الأثر الكبير لهذا القطاع في دعم الاقتصاد الوطني، ويعكس استمرارية تطور المشاريع السكنية، التجارية والصناعية التي أصبحت في طليعة القطاعات ذات الأثر المباشر على تحسين حياة المواطنين.
قيمة مساهمة قطاع البناء والتشييد في الاقتصاد السعودي (مليار ريال)
حجم سوق الإنشاءات والنمو المستقبلي
وفقًا لتقرير مؤسسة "نايت فرانك" الدولية للاستشارات، بلغ حجم قطاع البناء والتشييد في المملكة العربية السعودية نحو 366.7 مليار ريال سعودي في عام 2024. ومن المتوقع أن يشهد القطاع نموًّا سنويًّا بنسبة 3.7% حتى عام 2033؛ ليصل إلى حوالي 509.8 مليار ريال سعودي بحلول ذلك العام. هذه الأرقام تُبرز أهمية قطاع البناء والتشييد كأحد المحركات الحيوية لاقتصاد المملكة؛ حيث يتناغم مع أهداف رؤية 2030 في تعزيز التنمية المستدامة وتحقيق التنوُّع الاقتصادي.
حجم الاستثمارات الحكومية في مشاريع البناء
تُعتبر المملكة العربية السعودية أحد أكبر المستثمرين في مشاريع البناء على مستوى العالم. ففي إطار مشاريع البنية التحتية، قامت الحكومة السعودية بإطلاق مشاريع ضخمة في مجالات الطرق والمطارات والموانئ. ووفقًا للتقارير الرسمية، فإن الإنفاق الحكومي على مشاريع البناء والتشييد ارتفع إلى 193 مليار ريال في عام 2024، مقارنة بـ 186 مليار ريال في 2023، و143 مليار ريال في 2022. وهذه الاستثمارات تساهم بشكل كبير في تحفيز الاقتصاد الوطني، وخلق فرص عمل جديدة، وتحفيز القطاع الخاص للمشاركة في هذه المشاريع الطموحة.
الاستثمارات الأجنبية في قطاع البناء والتشييد
تُعتبر الاستثمارات الأجنبية في قطاع البناء والتشييد في السعودية من أهم الركائز التي تسهم في تنمية الاقتصاد الوطني؛ حيث تشهد المملكة توسعًا ملحوظًا في هذا القطاع؛ نتيجة العديد من المبادرات الحكومية مثل رؤية 2030 التي تهدف إلى تنويع مصادر الدخل الوطني وتحفيز المشاريع الكبرى. وتتيح السياسات الجديدة للمستثمرين الأجانب فرصًا واسعة للمشاركة في مشاريع البنية التحتية والمشاريع السكنية والتجارية؛ مما يعزز الابتكار ويزيد من جودة التنفيذ. كما تشكل الاستثمارات الأجنبية محركًا رئيسيًّا في نقل الخبرات والتكنولوجيا المتقدمة إلى السوق السعودية؛ مما يسهم في تعزيز التنافسية في القطاع وتحقيق تطوُّر مستدام في صناعة البناء والتشييد.
المشاريع السكنية ركيزة أساسية في إستراتيجيات التنمية
يشهد قطاع المشاريع السكنية في المملكة طلبًا متزايدًا؛ حيث يمثل نحو 31% من إجمالي قيمة المشاريع العقارية في عام 2023. وبحسب التوقعات، فإن حجم المشاريع السكنية في المملكة سيتجاوز 213.7 مليار ريال سعودي بحلول عام 2028. هذا النمو المستمر يعكس التزام الحكومة بتلبية احتياجات المواطنين في ظل سعيها لتحسين جودة الحياة وتحقيق الاستقرار السكني للجميع.
توجهات السوق الاستثمارية لقطاع البناء
تتمتع المملكة العربية السعودية بمناخ استثماري واعد في قطاع البناء والتشييد، وذلك بفضل الخُطط الضخمة التي يتم تنفيذها في إطار رؤية السعودية 2030. هذه المشاريع الضخمة تشمل كافة القطاعات، بدءًا من المشاريع السكنية التي تلبّي احتياجات السكان، وصولًا إلى مشاريع ضخمة مثل مشروع "نيوم" و"القدية"، اللذين يعكسان رؤية المملكة المستقبلية لإنشاء مدن ذكية ومستدامة.
أبرز مشاريع قطاع البناء السعودي الكبرى
مشروع نيوم: يُعد مشروع نيوم واحدًا من أكثر المشاريع الطموحة في تاريخ المملكة. ويمتد هذا المشروع لمساحة تزيد على 26,500 كيلو متر مربع، ويهدف إلى إنشاء مدينة مستقبلية تعتمد على التقنيات الحديثة والطاقة المتجددة. ومن المتوقع أن يكون لهذا المشروع تأثير كبير في تنويع مصادر الدخل الوطني وتحقيق التنمية المستدامة. واعتبارًا من عام 2024، خُفض حجم المشروع جزئيًا، مع خطط لاستكمال نحو 2.4 كيلو متر من المشروع بحلول عام 2030. وسيتطلب البناء 85 مليون طن من الأسمنت، و90% من المكونات سابقة التجهيز، وستكون المدينة "محايدة كربونيًّا" بحلول عام 2030.
مشروع البحر الأحمر: يُعتبر مشروع البحر الأحمر أحد أكبر المشاريع السياحية في العالم؛ حيث يهدف إلى تحويل المنطقة إلى وجهة سياحية عالمية. ويشمل المشروع تطوير مناطق سكنية، وفنادق، ومرافق سياحية مبتكرة، ويُعد من المشاريع الرائدة التي تساهم في تعزيز الاقتصاد الوطني. وافتتحت هذه الوجهة السياحية الفاخرة أول منتجع لها في عام 2023. ويهدف المشروع إلى استكمال 16 منتجعًا في مرحلته الأولى قبل نهاية 2024/2025. وعند اكتماله في عام 2030، سيوفر هذا المشروع، وفقًا للبيانات الرسمية، 8 آلاف غرفة في 50 فندقًا، و1000 عقار سكني.
مشروع القدية: يشكّل مشروع القدية منصة ترفيهية ورياضية مبتكرة تهدف إلى أن تصبح وجهة سياحية عالمية. ويساهم هذا المشروع في جذب السياح من جميع أنحاء العالم وتعزيز الاقتصاد من خلال الأنشطة الترفيهية والرياضية. وهو مشروع مدينة ترفيهية واسعة النطاق جنوب غربي الرياض، ومن المتوقع أن يكتمل بحلول عام 2030، وسيشمل حدائق ترفيهية، وملاعب جولف، وفنادق. كما سيؤدي هذا المشروع إلى توفير 325 ألف وظيفة دائمة، مع توفير 100 ألف وظيفة إضافية أثناء الإنشاء.
مشروع المربع الجديد العملاق: سنة الانتهاء المتوقعة هي 2030، ومن المقرر أن يضم هذا المشروع عند اكتماله، 104 آلاف وحدة سكنية، و9 آلاف غرفة فندقية، و300 ألف متر مربع من المساحات التجارية لقطاع التجزئة.
الفرص المستقبلية في قطاع البناء والتشييد
يُعدُّ التحول إلى "البناء الأخضر" واستخدام تقنيات البناء الحديثة من أبرز الفرص المستقبلية لهذا القطاع. كما أن استخدام التكنولوجيا الحديثة مثل الطباعة ثلاثية الأبعاد في البناء وتقنيات الذكاء الاصطناعي في إدارة المشاريع يُعزز الكفاءة ويسهم في تقليل التكاليف. كما تُعد الشراكات بين القطاع الخاص والحكومة عاملًا محوريًّا في تعزيز النمو؛ مما يفتح المجال أمام المزيد من الفرص الاستثمارية الضخمة.
تحديات القطاع وسبل التغلب عليها
على الرغم من النمو الكبير الذي يشهده القطاع، يواجه قطاع البناء السعودي بعض التحديات، مثل نقص العمالة المؤهلة، والاعتماد على المواد الخام المستوردة، والتحديات المتعلقة بتقديم الخدمات اللوجستية في المشاريع الضخمة. ومع ذلك، تواصل المملكة تطوير حلول مبتكرة لمعالجة هذه التحديات، ومنها الاستثمار في تدريب وتطوير المهارات المحلية وتحفيز الابتكار في مجال التكنولوجيا.
يُمثل قطاع البناء والتشييد في المملكة العربية السعودية قطاعًا حيويًّا يعكس التزام المملكة بتحقيق أهداف رؤية 2030. فبفضل المشاريع الضخمة والاستثمارات الحكومية، يُعزز هذا القطاع مكانة المملكة على الخريطة الاقتصادية العالمية. وفي المستقبل، سيظل قطاع البناء محركًا رئيسيًّا للنمو الاقتصادي، وستظل التوجهات الحديثة نحو البناء المستدام والتقنيات المتطورة أحد أبرز العوامل المساهمة في تحقيق هذه الطموحات.
مؤشرات أسعار مواد البناء