كشف تقرير أعدته شركة "جي وورلد" عن أبرز التجارب الدولية في مجال ضبط أسعار العقارات والإيجارات، والذي استعرض سياسات فعَّالة طبَّقتها دول مختلفة لمواجهة أزمة الإسكان.
شمل التقرير تجارب كلٍّ من ألمانيا، هولندا، إسبانيا (كتالونيا)، فرنسا (باريس)، هونغ كونغ، وسنغافورة، وسلَّط الضوء على السياسات التشريعية والتنظيمية التي تبنَّتها هذه الدول لتحقيق توازن بين حقوق المستأجرين وضمان استقرار سوق الإسكان.
ويهدف التقرير إلى تقديم مقارنةٍ معياريةٍ للممارسات الناجحة في دول مختلفة، مع تسليط الضوء على أفضل السياسات التي يمكن تطبيقها في سياقاتٍ أخرى؛ لتطوير أطر تنظيمية أكثر عدالة واستدامة في قطاع الإسكان.
ألمانيا: تحديات الرقابة على الإيجارات ضمن إستراتيجية شاملة
تُعد ألمانيا من الدول التي تتصدَّر قائمة الدول في اعتماد سياسات لتقييد أسعار الإيجارات في محاولة لضبط سوق الإسكان.
ففي السنوات الأخيرة، شهدت ألمانيا نموًّا غير مسبوقٍ في أسعار الإيجارات، وهو ما دفع الحكومة إلى اتخاذ إجراءات لتقييد الزيادات المبالغ فيها.
وأبرز هذه السياسات كان قانون "Mietpreisbremse" أو "فرامل الإيجارات"، الذي يهدف إلى فرض سقفٍ على زيادات الإيجارات في بعض المناطق ذات الطلب المرتفع.
لكن على الرغم من الفوائد الأولية التي أتاحتها هذه التشريعات، فإن التجربة الألمانية أظهرت أن الرقابة على الإيجارات وحدها لا تكفي لمواجهة أزمة الإسكان.
فعلى الرغم من أن السياسات ساعدت في تحقيق بعض الاستقرار في أسعار الإيجارات، إلا أن النمو المستمر في الطلب على المساكن لا يزال يشكّل تحديًا حقيقيًا.
ومن هنا، بدأت الحكومة الألمانية في تعديل سياساتها لتشمل حلولًا أوسع، تتضمن زيادة المعروض من المساكن وتعزيز بناء الإسكان الاجتماعي.
وتعكس هذه التطورات الفهم المتزايد لضرورة وجود نهج شامل ومتكامل يضمن توفير سكن لائق لجميع المواطنين بأسعار معقولة.
هولندا: سياسة مرنة تجمع بين حماية المستأجرين واستدامة السوق
تُعدُّ هولندا من الدول التي قطعت شوطًا طويلًا في وضع تشريعات مرنة تهدف إلى حماية حقوق المستأجرين، مع ضمان استدامة السوق العقارية.
وتُعتبر تشريعات مثل "قانون الإيجار بأسعار معقولة" و"قانون عقود الإيجار الثابتة" جزءًا من النظام القانوني الذي يهدف إلى تقليل التفاوتات في سوق الإيجارات.
وقد أسهمت هذه السياسات في استقرار الإيجارات ورفع مستوى الأمان في سوق الإسكان؛ مما ساعد على توفير سكن مناسب للعديد من الأسر ذات الدخل المتوسط.
لكن، كما هو الحال في العديد من الدول الأوروبية، واجهت هولندا تحديات في توفير المعروض الكافي من المساكن، خاصة في المدن الكبرى مثل أمستردام.
من هنا، قامت الحكومة بتوسيع نطاق سياستها لتشمل زيادة المعروض من المساكن عبر مشاريع إسكانية جديدة وتحفيز الاستثمار في مشاريع الإسكان الاجتماعي.
وتبرز التجربة الهولندية كدليل على ضرورة الجمع بين تنظيم الإيجارات وفتح المجال أمام الاستثمارات العقارية لزيادة العرض بما يتناسب مع الطلب.
إسبانيا – كتالونيا: دمج الرقابة والتحفيز
تُعد تجربة كتالونيا في إسبانيا أحد النماذج المميزة التي تُظهر قدرة السياسات القانونية على إيجاد توازن بين الرقابة على الإيجارات وزيادة المعروض من المساكن.
فقد فرضت الحكومة الكتالونية رقابة شديدة على الإيجارات في محاولة لتقليل الضغط على السكان في مدينة برشلونة والمدن الكبرى الأخرى.
وعلى الرغم من تحسُّن بعض المؤشرات في سوق الإسكان، كانت التجربة الإسبانية مُعقدة بالنظر إلى التحديات القانونية والاقتصادية، إذ إن الرقابة وحدها لا تساهم بشكل كافٍ في حل أزمة الإسكان، ولذلك، كان من الضروري أن يتزامن تطبيق هذه السياسات مع تحفيز بناء المزيد من الوحدات السكنية لضمان استدامة السوق.
التجربة الكتالونية تؤكد أن الرقابة المدروسة على الإيجارات يجب أن تكون جزءًا من إستراتيجية شاملة تشجع الاستثمار في قطاع الإسكان وتوفر الحلول طويلة المدى.
فرنسا – باريس: ضوابط الإيجار في بيئة تجريبية
تُعد باريس مثالًا آخر على محاولات السيطرة على أسعار الإيجارات؛ حيث بدأت المدينة في تطبيق نظام ضوابط الإيجارات في بعض المناطق التي تشهد ارتفاعًا ملحوظًا في الأسعار.
وعلى الرغم من أن بعض الأحياء شهدت نتائج إيجابية مع انخفاض معدلات الإيجار، فإن التحديات لم تختفِ.
وتشير التقارير إلى أن النظام قد أسهم في انخفاض الأسعار بنسبة متوسطة تصل إلى 4.2%، ولكنه أيضًا تسبب في تراجع كبير في المعروض من الإيجارات بنسبة 42.5% منذ عام 2018.
وتُظهر التجربة الباريسية أن ضوابط الإيجار قد تكون فعّالة في بعض الحالات، ولكنها بحاجة إلى تكامل مع سياسات أخرى لتعزيز العرض وزيادة المعروض من المساكن.
بالإضافة إلى ذلك، فإن تحسين آليات الإنفاذ وتحفيز المستثمرين العقاريين على بناء مشاريع جديدة من شأنه أن يعزز فعالية هذا النظام.
هونغ كونغ: حماية المستأجرين مع تحسين جودة السكن
تعتبر هونغ كونغ من الدول التي تواجه تحديات كبيرة في توفير السكن الملائم والميسور التكلفة، خاصة بالنسبة للمستأجرين في الشقق المقسمة.
وتتمثل سياسة الحكومة في فرض رقابة صارمة على الإيجارات، بما في ذلك تحديد الحدود القصوى للإيجار وتحسين مستوى الأمان السكني، ولكن، كما هو الحال في العديد من الدول الأخرى، لا تكفي الرقابة وحدها لتحسين الوضع بشكل كامل.
فالتجربة تشير إلى ضرورة توفير سياسات إضافية تهدف إلى زيادة المعروض من المساكن وتحسين جودتها، فالتحديات التي تواجهها هونغ كونغ تكمن في توسيع نطاق الرقابة وتحسين بيئة السكن على المدى الطويل.
فضلًا عن أن التحسينات في مجال الإنفاذ وضمان الجودة ستكون أساسية لضمان حقوق المستأجرين.
سنغافورة: من أزمة إسكان إلى نموذج للإسكان المتوازن
تُعد سنغافورة واحدة من أنجح القصص في معالجة أزمة الإسكان؛ حيث استطاعت الحكومة تحويل البلاد من حالة أزمة إسكان حادة إلى دولة ذات معدلات ملكية سكنية مرتفعة ومساكن عالية الجودة.
وقد اعتمدت سنغافورة على مزيج من التدخل الحكومي القوي والتخطيط طويل المدى؛ حيث أسست هيئة الإسكان والتنمية لتخطيط وبناء مشاريع إسكانية مدعومة تضمن الوصول إلى سكن ميسر.
ويمكن لدول أخرى الاستفادة من تجربة سنغافورة، رغم أن النموذج قد لا يكون قابلًا للتطبيق بالكامل في جميع السياقات.
وتعكس هذه التجربة أهمية التخطيط طويل الأجل، والاستثمار في الإسكان الاجتماعي، وتوفير بيئة سكنية عادلة ومستدامة لجميع الفئات الاجتماعية.
نجاح السياسات الإسكانية يعتمد على تكامل عدة عوامل منها: الرقابة على الإيجارات، زيادة المعروض من المساكن، وتحسين الجودة
دروس مستفادة
وأوضح التقرير أن التجارب الدولية التي تناولتها هذه الدراسة تُظهر أن نجاح السياسات الإسكانية يعتمد على تكامل عدة عوامل منها: الرقابة على الإيجارات، زيادة المعروض من المساكن، وتحسين الجودة؛ حيث أكدت جميع التجارب أن المراقبة المستمرة والتقييم الدوري للسياسات ضروريان لضمان استدامتها وفاعليتها.
ولفت التقرير إلى أن معالجة أزمة الإسكان ليست مهمة بسيطة، لكنها تتطلب نهجًا متكاملًا يعالج جميع جوانب المشكلة بشكلٍ متوازن، إلى جانب ذلك يجب أن تضع السياسات في اعتبارها تحقيق التوازن بين حماية حقوق المستأجرين وضمان استمرارية استثمار القطاع العقاري، مع توفير سكن ميسَّر لجميع المواطنين.
نحو سياسات إسكان مستدامة وشاملة
وأكد التقرير أن السياسات الإسكانية تتطلب رؤية واضحة وطويلة المدى ترتكز على استدامة التنفيذ ومرونة التكيف مع التغيرات الاقتصادية والاجتماعية.
وخرج التقرير ببعض التوصيات الأساسية أبرزها:
وضع رؤية طويلة المدى لسياسة الإسكان: من خلال تبنّي إستراتيجيات طويلة المدى تضمن توفير سكن بأسعار معقولة للجميع.
إعداد تشريعات مرنة لزيادة الإيجارات: بضرورة تحديد سقف لزيادة الإيجارات بناءً على المؤشرات الاقتصادية مثل التضخم.
تحفيز الاستثمار في الإسكان الاجتماعي: عبر تقديم حوافز ضريبية لبناء وحدات سكنية ميسورة التكلفة.
دعم المستأجرين: بتفعيل دور النقابات والجمعيات لتوعية المستأجرين بحقوقهم.
استخدام التكنولوجيا لمراقبة الأسعار: من خلال تطوير منصات إلكترونية لزيادة الشفافية في سوق الإيجارات.
واختتم التقرير نتائجه بالتأكيد على أن تحقيق التوازن في سوق الإسكان يتطلب اتباع سياسات مرنة ومستدامة تستند إلى تكامل الرقابة على الإيجارات مع زيادة المعروض من المساكن، بالإضافة إلى ذلك يجب تعزيز الرقابة والإنفاذ، واستخدام التكنولوجيا الحديثة، وتفعيل دور المجتمع المدني لضمان تحسين استدامة سوق الإسكان في المستقبل.